عندما قررت أن أكتب عن التَّوتُّر، احترت بين قولبة هذا الكتاب كطبيبٍ مختصٍ،
ومحللٍ نفسي عالج لسنين كثيرًا ممن عانوا من التَّوتُّر، أو كأكاديميّ مُهتم بتعميم
التجارب النّظرية والتطبيقية عن التَّوتُّر. ولكنني تيقنت أن تحقيق إحدى تلك الطّرق
سيؤدي إلى نظرة غير مُكتملة أحادية الجانب، ولن أتمكّن من إعطاء نظرة عامة على
مجال التَّوتُّر المُعقد. لذلك عزمت على بدء دراسة هدفها الرّئيسي جمع التجارب
النّظرية والتطبيقية؛ بغرض تحقيق نظرة في سياق اجتماعيّ وثقافيّ أصبح فيه التَّوتُّر
مُشكلة فردية واجتماعية.
لماذا إذًا؟ )عن القلق(.
إنَّ الحضارة المُعاصرة بمتطلباتها الَّتي يصعب تتبعها، وضعت الفرد في وضع لا
يُحسد عليه، حيثُ أصبح من الصّعب عليه تلبية متطلباتها. لَمْ يعد الإنسان قادرًا
على مواكبة مسار التغيرات الحضارية، حيثُ بات واضحًا أنَّ التحولات الحاصلة في
باطنه مُعقدة أكثر مما كان معتقدًا سابقًا. وفيٌّ فِي سعيه أن يطابق ذلك القالب
الاجتماعي، يُدرك أنَّه من المُستحيل ألا يقع في قلق الصّراع.
إنَّ ضغوط الحياة اليومية تفرض على الفرد نمطيةً لا كُمين تفادي القلق معها،
أصبحت المواقف
المُؤدية للقلق لا تفارق الإنسان، ملاصقة له كظلِّه، ويبدو أنَّه لَمْ يعد قادرًا على
تفاديها. استغل نظامنا الأخلاقي كلّ ما في جعبته؛ ليجعل الإنسان أكثر طموحًا، ومن
ثم في ذلك المجال، بين توقعات الإنسان ومقدراته تتواجد فسحة المُخاطرة، حيثُ
يفقد الفرد قدرته على التحكم بأحواله، وتحت رحمة تلك الظّروف المفروضة عليه،
تضيع منه تلك الثّقة الَّتي تجعله قادرًا على تحقيق خياراته.
إنني أشبِّه المرء المُصاب بمحنة التَّوتُّر بذلك الَّذي يعيش في منطقةٍ زلزاليةٍ.
على الرّغم من أنني لا أعتقد أنَّه من الكافي التعلم عن القلق؛ للتخلص منه، ولكنني
أرى في الإلمام بالمرض خطوة للتقرب من المعرفة الَّتي تكشف لنا أي من ظروفنا8
المُعاصرة هي في الواقع مسببة له. حتَّى إنَّ طرق التحليل النّفسي كشفت لنا أنَّ
معرفة النّفس لها قوَّة مكافئة، بَلْ حتَّى علاجية. ويمكن تطبيق تلك القاعدة على
الأمراض الَّتي تخضع لتأثير الحالة النّفسية، بَلْ حتَّى للعلل الجسدية البحتة، إن تلك
المعرفة - على الأقل - من المُمكن أن تكون تذكيرًا ما، وآلية للتعامل مع ذلك المرض.
لست واه أن هذا الكتاب سيقدم الإجابة الشّافية لقضية التَّوتُّر، ولكنَّ أساسيات
التَّوتُّر يجب التعرف عليها في طريقة الحياة المُروّج لها في وسائل الإعلام الحديثة على
أنّها نمطُ الحياة الَّذي نرغب في عيشه.
إنَّ التخلص من القلق، مهما عنى ذلك، سيعني الاستغناء عن نمط الحياة الحاليّ
المُنحطّ، وأن نسعى نحو النّزاهة البشرية والاكتفاء والرضى.
أعتقد أنَّ الوعي والإلمام بالمرض من المُمكن أن يكونوا بعض شروط الوقاية منه،
لعلَّ معرفة الإنسان بذاته وقدرته على الاختيار يكونان عنصرين فعّالين من أجل
ذلك.